تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة السابعة والتسعون
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق:
قلنا في الحلقة السابقة: “ولا يقاس التسميع على الرياء في إبطال العمل؛ لأن العمل الذي يخالطه الرياء يعد كأنه لم يقع فهو باطل، بينما العمل الذي كان خالصا لله ثم تبعه التسميع يعد أنه وقع صحيحا، فلا تقاس القربة التي وقعت صحيحة على القربة التي وقعت باطلة”.
ونحن بحمد الله في حزب التحرير نقوم بأعمال كثيرة نقصد بها القربة إلى الله جل في علاه, ونخفيها خشية الوقوع في معصية الرياء والتسميع, ولكننا – والله أعلم بإيماننا ونوايانا, وهو وحده الذي يتولى السرائر- نجد أنفسنا رغما عنا مضطرين إلى أن نصرح بالأعمال التي قمنا بها, وذلك بعد القيام بها بفترة طويلة, لا من أجل الرياء, ولا من أجل التسميع, بل من أجل إتمام العمل الذي كنا قد بدأناه منذ زمن بعيد وحان قطاف ثمره, وآن أوان ظهوره وإظهاره للأمة التي اكتوت بنار الأنظمة الوضعية, وعانت وما زالت تعاني الأمرين, وهي تتلمس طريقها نحو العزة, لنقول لها وللعالم أجمعين: من هنا الدرب أيها التائهون! وهذه هي سبيل الخلاص! هذه هي طريق النجاة فاسلكوها! وحتى لا نغرق في التخيلات؛ ولكي نكون بعيدين كل البعد عن الأوهام؛ سأدخل مباشرة في الموضوع الذي سأحدثكم عنه. يقولون: رب ضارة نافعة, فلقد كانت فترة اعتقالي عام ثلاثة وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية, وسجني في واحد من سجون الظالمين في ولاية الأردن من أعظم نعم الله علي, تعلمت خلالها الكثير من الأمور المتعلقة بحمل الدعوة, ووقفت على بعض الحقائق. أذكر لكم منها حقيقة عشتها واقعا محسوسا.
لقد اعتدى رئيس الوزراء آنذاك مضر بدران على أملاك بعض شيوخ العشائر من بني حسن, فسلب أموالهم واغتصب أراضيهم, فما كان منهم إلا أن ثاروا ضده, وحصلت اشتباكات مسلحة بينه وبينهم, فما كان منه إلا أن زج بهم في غياهب السجون, وكان نصيبهم أن أدخلوا عندنا, وبوصفنا حزبا سياسيا يستفيد من الأحداث, ويوظفها في خدمة الدعوة, فقد دعوناهم إلى وليمة, فاستجابوا بحمد الله لسببين اثنين: بسبب معرفتهم المسبقة للحزب الذي كان يديم الاتصال بهم من أجل إعطاء نصرتهم له, وبسبب وجود واحد منهم معنا كان قد سجن على قضية أخلاقية ثم تاب وصلح حاله.
وبينما هم على مأدبة الغداء, وشباب الحزب قائمون على إكرامهم وفي خدمتهم, إذ سمعوا خبر اعتقال خمسين من أعضاء حزب التحرير في تونس وكلهم من كبار العسكريين والطيارين والأطباء والمهندسين, سمعوه من إذاعة وراديو مونت كارلو عبر جهاز صغير جدا بحجم نصف الكف تقريبا, عندها قال قائلهم والمتحدث بلسانهم, وقد كان لبقا ذكيا: والله يا شباب حزب التحرير, نحن في حيرة من أمرنا! ثم سكت, فقال له المحاور من شباب الحزب: ولم الحيرة يا أخانا؟ قال الشيخ: حقا إننا لفي حيرة من أمرنا, لأننا لا ندري هل نهنئكم بهذا الخبر أم نعزيكم به؟ نهنئكم لأنكم تستحقون التهنئة! فها هي نتائج جهودكم التي بذلتموها في حمل الدعوة قد ظهرت وبرزت حتى وصلت إلى بلاد المغرب العربي! أو هل نعزيكم في مصابكم لأن اعتقال خمسين من أعضائكم ومناصريكم مصاب جلل وعظيم يستوجب منا أن نعزيكم بهم أحر التعازي!
ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل إن هؤلاء الشيوخ رفضوا تلبية دعوة أعضاء الحزب الشيوعي لتناول طعام الوليمة التي أعدوها في اليوم التالي إكراما لهم, لأن أعضاء الحزب الشيوعي الذين كانوا مسجونين معنا, لما رأوا بأم أعينهم العمل السياسي الذي قام به شباب حزب التحرير, أحبوا أن يقلدوهم, فأعدوا لهم وليمة كبيرة ودعوهم إليها فرفضوا دعوتهم. فما كان من أعضاء الحزب الشيوعي إلا أن ازدادوا إصرارا على أن يلبي شيوخ العشائر دعوتهم فيحضروا لتناول طعام الغداء معهم وفي مهجعهم. لكن الشيوخ كانوا أشد إصرارا منهم! فرفضوا دعوتهم رفضا قاطعا, ولما سألهم أحد الشيوعيين عن سبب رفضهم فقال لهم: لماذا لبيتم دعوة شباب حزب التحرير, ورفضتم تلبية دعوتنا؟ فأجابهم الناطق باسمهم: لأن حزب التحرير يدعوننا إلى التخلص من الأنظمة الوضعية الكافرة, ليقيم على أنقاضها دولة الخلافة على أساس الإسلام الذي هو ديننا وعقيدتنا, فماذا تريدون منا؟ أتريدون أن نستبدل الصرمة بالحذاء؟ والمعنى: أتريدون منا أن نستبدل دولة كافرة بدولة أخرى كافرة؟ وتلو قول الله جل في علاه: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون؟}.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي