الحديث السياسي الأزمة المالية العالمية تُفجر صراعاً دولياً جديداً
عادةً ما يعقب الأزمات العالمية صراعات دولية حادة، وغالباً ما يتمخض عن تلك الصراعات رؤىً جديدة، وصياغات جديدة، وحلول جديدة، تحل محل الاتفاقيات القديمة السائدة. ولا فرق بين أن تكون الأزمة اقتصادية مالية أم سياسية وعسكرية، بل المهم أن تكون الأزمة المفجرة للصراعات ذات طابع دولي وليست محلية أو إقليمية.
إن اتفاقية (بريتون وودز) التي تنظم العلاقات المالية الدولية الحالية صيغت في العام 1944 بين الدول الكبرى الفائزة في الحرب العالمية، وكان سبقها أزمتين عالميتين:
- 1- أزمة مالية اقتصادية نشأت في العام 1929م وتمخض عنها كساد كبير استمر لأكثر من عشر سنوات.
- 2- أزمة سياسية عسكرية أسفرت عن حرب عالمية ثانية.
وأما الأزمة المالية العالمية الراهنة فإنها كسائر الأزمات العالمية الأخرى لها أسباب سياسية واقتصادية.
أما الأسباب السياسية فإنها تتلخص في هيمنة أمريكا على الموقف الدولي منذ العام 1991م بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهو ما أدّى إلى اختلال التوازن الدولي، وأعقبه اختلال في التوازن الاقتصادي والمالي.
وأما الأسباب الاقتصادية والمالية فكانت انعكاساً للهيمنة السياسية والعسكرية الأمريكية، وتمثلت في هيمنة العملة الأمريكية ( الدولار )، وسيطرة الشركات الأمريكية، و غلبة الأسواق المالية الأمريكية على اقتصاد العالم، و على عملاته، و على أسواقه المالية، ونتج عن ذلك اختلال كبير في وضع البورصات والمصارف العالمية، وأسفر عن بعد ذلك عن تلك الانهيارات المالية الكبيرة التي شهدناها في كبريات المؤسسات العالمية.
وما أن تجلت آثار هذه المشكلة على العالم، وبرزت آثارها العميقة في المصارف الأوروبية والآسيوية بعد ظهورها في المصارف الأمريكية، حتى بدأت الدعوات الغاضبة تنادي بتغيير النظام المالي العالمي الحالي.
فتحركت أوروبا سريعاً، واجتمع أقطابها الرئيسيون بقيادة فرنسا وبريطانيا، ونسقوا مواقفهم، ورتبوا أوراقهم، وكلَّفوا الرئيس الفرنسي ساركوزي بصفته رئيس الاتحاد الأوروبي ليتحدث باسمهم، فذهب إلى أمريكا، وخاطب الإدارة الأمريكية بصراحة وقوة، وحمل المطالب الأوروبية بشكل جلي واضح للرئيس الأمريكي بوش، فدعاه إلى إقامة (نظام مالي ونظام رأسمالي عالمي جديدين). وطالب بإعادة (بناء رأسمالية المستقبل) استناداً على اقتصاد السوق (الذي يحتاج إلى قواعد جديدة) وقال: “إن الخطأ الأكبر يكمن في اعتبار الأزمة المالية مرحلة عابرة”، وأضاف: “على الأمريكيين أن يفهموا أيضاً أن لهم شركاء وأنهم ليسوا لوحدهم في العالم”، وأوضح أنه: “لا يمكننا أن نظل ندير اقتصاد العالم في القرن الحادي والعشرين بأدوات اقتصاد القرن العشرين”. وشدَّد ساركوزي على أن أوروبا تريد عقد القمة العالمية الجديدة لإصلاح النظام المالي العالمي قبل نهاية هذه السنة وأن “أوروبا تطالب بذلك وستحصل عليه”.
إن هذه المواقف الأوروبية الحاسمة التي حملها ساركوزي للإدارة الأمريكية تعبر عن وحدة الدول الأوروبية التي تم ترجمتها عملياً بخطة أوروبية سريعة لإنقاذ المصارف الأوروبية كلفتها حوالي ألفي مليار يورو.
وكان رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون قد أظهر قيادة بريطانيا لأوروبا عندما عرض خطة أوروبية عملية على ساركوزي لتمويل القطاع المصرفي، وقدَّم نموذجاً عملياً سريعاً وفعّالاً في التأميم الجزئي يتلخص في دعم ثمانية مصارف بريطانية كبرى من خلال تحريك اعتمادات ضخمة بقيمة خمسة وستين مليار جنيه استرليني. ثم سرعان ما تم تبنى الأوروبيون خطط مماثلة من قبل ألمانيا وفرنسا وسائر الدول الأوروبية الأخرى. ودعا براون إلى “إعادة تشكيل صندوق النقد الدولي باعتباره حجر الزاوية في تنظيم السوق العالمية ووضع نظام للإنذار المبكر للاقتصاد العالمي”.
لقد وصف بول كروغمان أحد أكبر المفكرين الرأسماليين الغربيين براون بأنه منقذ النظام المالي العالمي المتداعي فقال: “إن حكومة براون أثبتت استعدادها للتفكير بوضوح حيال الأزمة المالية والتحرك بسرعة بناء على النتائج التي خلصت إليها. ولم تنجح أي حكومة غربية أخرى في إبداء مثل هذا الخليط من الوضوح والحسم في تناولها للأزمة الراهنة”.
وبينما تتوحد الدول الأوروبية في أهدافها ومطالبتها بإرساء نظام دولي مالي جديد، تتردد الولايات المتحدة الأمريكية في التجاوب مع هذه المطالب الأوروبية الملحة، فيقول الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض توني فرانو: “ندرك أن للأوروبيين أفكاراً كبيرة إلا أن الأفكار الكبيرة تقتصر على أفكارهم” وهو ما يعني رفض دبلوماسي أميركي لها. وأما الرئيس بوش فإنه يتهرب من علاج الأزمة بمشاركة الأوروبيين ويقول: “إن أمريكا أفضل بلد في العالم للمستثمرين”، ويؤكد على أن تدخل الحكومة الأمريكية في معالجة الأزمة المالية هو مجرد “تدخل محدود في حجمه وقيمته ومدته وأنه لا يعتبر استحواذاً ولا يهدف إلى تقويض الاقتصاد الحر” كما يجدد رفضه لانتهاج مبدأ (الحمائية) التي تطالب به الدول الأوروبية.
إن ساركوزي وبراون يطالبان إدارة بوش بالتوصل إلى إتفاقية جديدة تحل محل اتفاقية بريتون وودز، ويطالبان بتدخل حكومي صارم في المؤسسات المالية، ويصران على فرض رقابة شاملة على عمل المؤسسات المالية الكبرى، وإيقاف فوضى الأسواق المالية الحالية، بينما تصر الإدارة الأمريكية على الحفاظ على ما تسميه (روح النظام المالي الحر وعدم تدخل الحكومات في تسيير النشاطات المصرفية).
إنه صراع حقيقي بين أمريكا وأوروبا على صياغة النظام المالي العالمي، وربما قد يتبعه صياغة للنظام السياسي العالمي بأسره، فساركوزي يقول بصراحة: “إن ما قد يثير حفيظة الأمريكيين أن عالماً جديداً سينشأ من التقلبات الحالية، ليس فقط فيما يتعلق بالمال أو الاقتصاد ولكن أيضاً في كل ما يتعلق بالسياسة أو المجتمع“.
فالقضية إذاً أكبر من المال والاقتصاد، إنها قضية صراع على النفوذ وعلى الثروة وعلى الهيمنة. فالأوروبيون مصممون على استغلال الأزمة من أجل التغيير الجذري، ومن أجل تحسين مواقعهم، فيقول رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون: “إنها لحظة حاسمة للاقتصاد ولإصلاح المؤسسات المالية الدولية الهرمة التي تخطاها الزمن”، ويضيف: “يجب أن يعاد بناؤها كي تواجه مرحلة جديدة تماماً حيث المنافسة تجري على المستوى العالمي وليس على المستوى الوطني وفي إطار اقتصادات مفتوحة وليست مقفلة”.
بينما ترد إدارة بوش على هذه الأفكار الأوروبية والتي منها “إقامة مراقبة دولية على أكبر المصارف العالمية وفرض حدود على أجور المدراء التنفيذيين وزيادة في توحيد المعايير والشفافية فيما يتعلق بالأدوات الاستثمارية” وجميع هذه المقترحات التي كان براون وراءها، ردت عليها إدارة بوش و على لسان أحد المسؤولين الرفيعين فيها بالقول: “إن أفكاراً على غرار تلك هي أمور سيكتب لها الفشل قبل أن تولد” وتعتبر الإدارة الأمريكية أن مثل هذه الأفكار هي عبارة عن “قيود دولية جديدة من شأنها أن تحد من تدفق رأس المال حول العالم وهو ما قد يكون مصدر أذى للاقتصاديات الناشئة والمتطورة على حد سواء”.
وبينما يستعر الصراع بين الأوروبيين بقيادة بريطانيا وفرنسا من ناحية وبين الأمريكيين من ناحية أخرى حول معالجة هذه الأزمة المالية العالمية الحالية، تقف سائر القوى الكبرى الأخرى كالصين وروسيا واليابان موقف المتفرج، حيث أثبتت هذه الأزمة أن القوتين الرئيسيتين المتصارعتين في العالم هما قوتان غربيتان رأسماليتان استعماريتان وهما: أمريكا وأوروبا، وهما نفسهما اللتان تتصارعان على المصالح العالمية والنفوذ العالمي منذ عقود طويلة، وأما باقي القوى الكبرى الأخرى فما تزال دولاً تقف على الهامش لم تدخل بعد في الصراع الدولي الرئيسي.
بقلم: أبو حمزة الخطواني